تأتي المرحلة الأولى من خطة إنهاء حرب غزة التي شهدت انطلاقها من شرم الشيخ لتشكل أول مسار عملي منضبط نحو تثبيت الهدنة والانتقال من مشهد الصراع المفتوح إلى مسار تفاوضي منظم. وإذا كانت شرم الشيخ قد استضافت عبر تاريخها العديد من المحطات السياسية الدقيقة في الشرق الأوسط، فإن استضافتها هذه المرة لمفاوضات غزة تحمل دلالات استراتيجية عميقة تتجاوز حدود الإجراءات البروتوكولية إلى إعادة صياغة التوازنات الإقليمية والدولية.
فالمفاوضات التي أدارتها مصر بحرفية سياسية كشفت قدرة القيادة السياسية والدولة المصرية على الإمساك بخيوط الأزمة الأكثر تعقيدًا في الإقليم وتحويلها إلى فرصة لإعادة بناء مسار سياسي جديد، وسط انكشاف حدود القوة العسكرية وعجز الأطراف عن تحقيق حسم على الأرض.
لقد جاء الجدول الزمني للمرحلة الأولى من الاتفاق ليعكس هذا التوجه الواقعي، حيث لم يأتي كترتيب عابر أو تصالح مؤقت، بل كمنتج سياسي تفاوضي تمت صياغته على مائدة شرم الشيخ بمشاركة أطراف دولية فاعلة، وبرعاية مصرية صلبة، ضمن إطار هدفه الأساسي ليس وقف الحرب فحسب، بل إعادة هيكلة المشهد في غزة خلال مرحلة انتقالية مدروسة.
وعلي اساس ذلك تنطلق المرحلة الأولى يوم الخميس 9 سبتمبر بإجراءين متوازيين هما اجتماع الحكومة الإسرائيلية للتصويت على الاتفاق، واجتماع المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت). ورغم ما يبدو من طابع إجرائي لهذه الاجتماعات، إلا أنها تحمل دلالات سياسية واضحة، إذ تمثل اختبارًا للتوافق الداخلي في إسرائيل التي تعيش أزمة سياسية عميقة بين اليمين المتطرف بقيادة سموتريتش وبن غفير من جهة، والتيار الأمني والعسكري الساعي إلى وقف الحرب من جهة أخرى. كذلك، فإن اختيار القاهرة توقيت بدء سريان الهدنة في تمام الساعة 12 ظهرًا بتوقيت القاهرة يحمل رسالة واضحة بأن مصر ليست مجرد وسيط، بل ضامن مركزي للاتفاق ومراقب لبدء تنفيذه.
ومن اللافت أن الحكومة الإسرائيلية لا تصوت إلا على بند واحد هو إطلاق سراح الأسرى، في حين أن بقية بنود المرحلة لا تحتاج إلى مصادقة جديدة نظرًا لاعتمادها مسبقًا ضمن مبادئ إنهاء الحرب التي أقرها الكابينيت. هذا الترتيب يعكس حكمة تفاوضية مصرية هدفت إلى تحييد عوامل العرقلة الداخلية داخل إسرائيل ومنع المزايدة السياسية على الاتفاق.
أما ما بين الجمعة 10 سبتمبر إلى الأحد 12 سبتمبر، فتبدأ الملفات العملية الأكثر حساسية سياسيًا وإنسانيًا، وعلى رأسها تبادل الأسرى. ففي هذه الفترة يتم تسليم جثامين 28 رهينة إلى إسرائيل و إطلاق سراح 20 رهينة إسرائيلية أحياء من غزة دفعة واحدة وبقاء بعض حالات الجثامين في دائرة الغموض، الأمر الذي يعكس التعقيد الإنساني لهذا الملف وارتباطه بميدان عسكري ما يزال في حالة إعادة تموضع.
وفي موازاة ذلك، تنفذ إسرائيل إعادة انتشار عسكرية في القطاع، حيث ينسحب الجيش إلى ما يعرف بـ”الخط الأصفر” مع احتفاظه بالسيطرة على نحو 53% من أراضي القطاع مؤقتًا. من الواضح أن هذه الخطوة لم تأتِ كتنازل إسرائيلي، بل كجزء من عملية إعادة تموضع محسوبة تسمح ببدء تنفيذ المرحلة الأولى دون خلق فراغ أمني بينما يتم تجهيز آليات الرقابة الدولية والترتيبات الانتقالية.
وعلى الصعيد السياسي، يمثل يوم الأحد 12 سبتمبر محطة حاسمة في تثبيت الاتفاق، ليس فقط لاستكمال ترتيبات المرحلة الأولى، بل لما يتضمنه من زيارة محتملة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة، تشمل كلًا من مصر وإسرائيل. ومن الواضح أن هذه الزيارة تعكس تعدد الرعاة وضمانات التنفيذ، فالقاهرة تقود المسار دبلوماسيًا وتفاوضيًا، بينما تسعى واشنطن إلى ضمان أن تكون جزءًا من صياغة اليوم التالي للحرب. فمشاركة ترامب،
تحمل بعدًا رمزيًا مهمًا للإسرائيليين وتوفر غطاءً سياسيًا إضافيًا يقي الاتفاق من محاولات إفشاله من داخل إسرائيل.
غير أن الجدول الزمني لا ينتهي عند تثبيت وقف إطلاق النار، فـالمرحلة الانتقالية تبدأ بعد هذه الخطوة وتنتقل بالأزمة من المجال العسكري إلى المجال السياسي. وتشمل هذه المرحلة قضايا بالغة الحساسية، أبرزها عودة الفلسطينيين المهجرين إلى غزة بمن فيهم بعض عناصر حماس وايضاً الترتيبات القانونية والأمنية لقيادات حماس داخل القطاع.
الي جانب تأسيس هيئة دولية للرقابة تحت اسم “مجلس السلام” لضمان تنفيذ الاتفاق وبدء دخول السلطة الفلسطينية تدريجيًا إلى إدارة غزة وإعادة تنظيم أو ضبط السلاح داخل القطاع وفق اتفاق يتم تحت رعاية دولية وتشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينية انتقالية تمهد لتسوية سياسية شاملة.
هذه البنود تكشف أن ما يجرى في شرم الشيخ هو بداية إعادة هندسة سياسية للصراع وليس مجرد حلقة تفاوضية ظرفية. فالمعادلة المطروحة اليوم لم تعد صراعًا صفريًا، بل إعادة صياغة التوازنات بين الأطراف بنتيجة واضحة بحيث لا يمكن لأي طرف العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، ولا يمكن ترك غزة في فراغ أمني جديد.
ختاما في ضوء ذلك، يمكن القول إن القاهرة نجحت في كسر نمط إدارة الأزمة عبر فتح مسار إنهاء الأزمة، وهو إنجاز تفاوضي يُحسب للدبلوماسية المصرية التي استطاعت رغم التعقيد أن تحفظ التوازن بين اعتبارات الأمن الإقليمي والحقوق الفلسطينية والسيادة الوطنية للدول. كما أثبتت مصر من جديد أنها ضامن الاستقرار في الشرق الأوسط، وأن شرم الشيخ لا تزال منصة صناعة السلام وممر العبور من التوتر إلى التفاهم. إلا ان المرحلة المقبلة لن تكون سهلة، لكنها للمرة الأولى تضع خريطة طريق جادة لإنهاء واحدة من أطول وأعقد الأزمات في المنطقة.