في ظلّ التسارع المتزايد للعولمة وتداخل الاقتصادات، بات النشاط العقاري أحد أبرز محركات الاقتصاد العالمي.
فالعقار اليوم لم يعد مجرد بناء أو مشروع سكني أو تجاري، بل هو منظومة اقتصادية – سياسية مترابطة تعتمد على شبكة العلاقات المؤسسية والتمويلية والتكنولوجية المحلية والإقليمية والدولية. هذه العلاقات تعيد تشكيل السوق العقاري، وتحدد أين تُوجَّه الاستثمارات الكبرى، وكيف تُدار المشاريع الضخمة، وكيف يُحقّق المطورون والمستثمرون عوائد مستدامة.
النمو العالمي للسوق العقاري: أرقام تشير إلى فرص ضخمة وتحديات استراتيجية.
تشير تقارير مرموقة إلى أن حجم السوق العقاري العالمي في تطور متسارع. فوفقًا لتقديرات MSCI، يبلغ حجم ما يُدار من العقارات عبر مؤسسات محترفة نحو 12.5 تريليون دولار، على الرغم من بعض التقلّب الناتج عن تأثيرات العملة العالمية كما أن السوق العقاري العالمي يُقدَّر بأنه سيصل إلى حوالي 7 تريليون دولار خلال العقد القادم، حسب بعض التقارير. Precedence Research+2marketbusinessinsights.com+2.
وفقًا لتقرير IMARC، من المتوقع أن ينمو السوق من حوالي 7,384 مليار دولار في 2024 إلى حوالي 8,690 مليار دولار بحلول 2033، بمعدل نمو سنوي مركب (CAGR) يُقدَّر بما يقرب من 1.81٪ للفترة بين 2025 و2033. IMARC Group هذه الأرقام الضخمة لا تمثل فقط حجمًا ضخمًا من الثروة، بل تُشير إلى أن العقار لا يزال من أكثر الأصول الجذابة للمستثمرين، خصوصًا مع تزايد الطلب على المنشآت السكنية والصناعية والتجارية، وتحول أنماط الاستخدام نحو ما يتناسب مع احتياجات الأجيال الجديدة.
تدفقات رأس المال الدولي: مؤشرات على تقاطع استثماري عميق
من أبرز ملامح الاقتصاد السياسي للعقار هو حجم تدفقات رأس المال عبر الحدود، حيث لعبت استثمارات عابرة للمناطق (“cross regional capital flows”) دورًا محوريًا. بحسب تقرير من CBRE عن النصف الثاني من 2024، فقد ارتفعت تدفقات رأس المال عبر المناطق إلى نحو 37 مليار دولار، بزيادة كبيرة على أساس سنوي، مع تركيز قوي على قطاعات مثل الصناعة واللوجستيات.
CBREهذا النوع من التمويل يعكس العلاقة المؤسسية بين المطورين والممولين الدوليين؛ فالمستثمرون الإقليميون وصناديق الاستثمار الكبرى ينظرون إلى العقارات كمخزّن استراتيجي لرؤوس الأموال، خاصة في ظل الضبابية الاقتصادية وصعود بدائل استثمارية أخرى.
لكن ما يلفت الانتباه أيضًا هو ما ورد في تقرير من IREI يفيد بأن الاستثمار العقاري العالمي بلغ 806 مليار دولار في عام 2024، مع ارتفاع الاستثمارات العابرة للحدود بنسبة 12٪. irei.comهذه الأرقام تعكس بشكّل جلي كيف أن الأصول العقارية لم تعد محصورًة داخل النطاق المحلي، بل أصبحت جزءًا من محفظة عالمية للمستثمرين؛ محفظة تستند إلى استراتيجية جيوسياسية واقتصادية، وليس فقط إلى الربح الفوري.
التكنولوجيات العقارية (PropTech) وتأثيرها في إعادة تشكيل المنظومة
لا يمكن الحديث عن الاقتصاد السياسي للعقار دون التطرّق إلى الثورة التكنولوجية التي شهدها القطاع. فالتكنولوجيا لم تعد ترفًا، بل هي عامل جوهري في إعادة بناء العلاقات التمويلية والعقارية. منصات التمويل العقاري الرقمية، تحليل البيانات الضخمة، النمذجة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، كل ذلك يمنح المستثمرين والمطورين أدوات جديدة لاتخاذ قرارات أكثر دقة، وتقليل المخاطر، وتسريع العمليات ، و على سبيل المثال، هناك دراسات حديثة تبحث في أداء نماذج الذكاء الاصطناعي والـ LLMs في تقييم العقارات وتقدير قيمها، مما قد يقلّل من عدم الشفافية، ويدعم المستثمرين الذين يبحثون عن بيانات موثوقة لاتخاذ القرارات. arXiv
كما أن التوجه نحو الأبنية الذكية (“smart buildings”) والمشروعات المستدامة يعزز الطلب على التكنولوجيا العقارية، والتي تُسهم بدورها في تحسين أداء المشروع، وتقليل التكاليف التشغيلية، وتحقيق قيمة مضافة للمستثمرين على المدى البعيد.
رفاهية النخبة العقارية والأسواق الفاخرة: محرك تمويلي واستثماري.
من جهة أخرى، يبرز بوضوح الدور الذي تلعبه الأسواق الراقية والفاخرة (“luxury real estate”) كمحرك رئيسي لعلاقات التمويل الدولية. فالتقارير تشير إلى أن الأثرياء جدًا (ultra high-net-worth individuals) استغلّوا تصحيح الأسعار في بعض الأسواق لشراء عقارات فاخرة بقيمة ملايين الدولارات، سواء في مدن كدبي أو مانيلا أو غيرها ، و هذا النوع من الطلب يخلق طبقة استثمارية مؤثرة، ليس فقط على المستوى المحلي، بل أيضًا على مستوى تدفقات الرساميل العالمية، ما يعكس كيف أن العقار الفاخر أصبح جزءًا من استراتيجية الحفاظ على الثروة والدخول في تحالفات تمويلية ذات أفق طويل الأجل.
العلاقة بين السياسة والتنمية المستدامة: العقارات كأداة استراتيجية
و من وجهة نظر الاقتصاد السياسي، لا يمكن فصل السوق العقاري عن سياسات الدولة التنموية. فالمشروعات العقارية الكبرى غالبًا ما تكون مدعومة من الدولة أو مؤسسات دولية ضمن خطط تنموية، وهي تمثل أداة لتحقيق أهداف استراتيجية: سواء في البنية التحتية العمرانية، أو المدن الذكية، أو التنمية الخضراء.
وفي هذا السياق، يصبح القطاع العقاري شريكًا في رسم خارطة التنمية: الحكومات ترشح جزءًا من الأراضي للمشاريع الكبرى، وتتيح تسهيلات للمطورين، وتربط بين التمويل العام والخاص، مما يعزز من قدرة الدولة على جذب الاستثمارات، وتحقيق أهداف النمو الاقتصادي والاجتماعي ، كما أن التوجه العالمي نحو الاستدامة يفرض على المطورين تبني نماذج بناء صديقة للبيئة، لأن المستثمرين العالميين أصبحوا ينظرون إلى الأصول العقارية ليس فقط من منظور الربح، لكن كأصل مستدام يراعي الأبعاد البيئية، ويخلق أثرًا إيجابيًا طويل الأجل.
أهمية الفهم الاستراتيجي للعلاقات المؤسسية والتمويلية لأي مطور أو مستثمر
بناءً على ما سبق، يتضح أن الفهم العميق للعلاقات المؤسسية والتمويلية هو أداة استراتيجية لا غنى عنها لأي مطور أو مستثمر طموح. فمن لا يعي الأبعاد التمويلية العابرة للمناطق، ومن لا يتقن أدوات التكنولوجيا العقارية، قد يفتقد الفرصة في الأسواق الكبرى، أو يواجه مخاطر مالية كبيرة ، و في الواقع، هذه العلاقات هي التي تحدد من يمكنه الدخول إلى مشاريع المدن الذكية، أو البنية التحتية الضخمة، أو المجمعات السكنية المستدامة. وهي التي تتيح للمطورين المحليين التعامل مع رؤوس الأموال العابرة للحدود، وتحقيق نمو حقيقي، وليس نموًا قصير المدى يعتمد فقط على المبيعات المحلية ، أما المستثمر الذكي، فهو من يرى في العقار ليس مجرد منزل أو وحدة تجارية، بل أداة استراتيجيـة، قادر على التوزيع الجغرافي لرأس المال، وتنويع المخاطر، ورفع العائد من خلال الاستثمار في الأصول التي تجمع بين التكنولوجيا والاستدامة.
العقار كأرض انطلاق لعصر اقتصادي جديد
أخيرًا، يمكن القول إن الاقتصاد السياسي للنشاط العقاري اليوم ليس مجرد تحليل فني للسوق. إنه خارطة طريق لعصر الاستثمار العالمي الجديد، حيث تتلاقى المؤسسات، والسياسة، والتمويل، والتكنولوجيا في وحدة متكاملة ، و إذا فهمنا هذه الصورة بوضوح، فإن العقار يتحول من كونه سلعة إلى أن يكون محركًا استراتيجيًا للنمو العالمي. ومن هذا المنطلق، أوجه دعوة لكل مطور ومُستثمر وصانع قرار: لا تقتصر رؤيتكم على المشاريع الأرضية وحدها، بل فكروا في العلاقات المؤسسية وتمويل المشاريع الدولية، واحتضنوا التكنولوجيا كجزء من استراتيجيتكم الاستثمارية. بذلك، يمكننا أن نبني ليس فقط مدنًا، بل مستقبلًا اقتصاديًا مستدامًا يربط بين الطموح المحلي والتحدي العالمي.


