ليست المعضلة في أن كمينًا محكمًا أوقع قتلى وجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي، فهذا صار متكررًا بشكل شبه يومي منذ عجز تل أبيب عن فرض سيطرة حقيقية على غزة. لكن الجديد – بل الخطير استراتيجيًا – أن عملية ميدانية واحدة، مثل كمين بيت حانون، فجّرت زلزالًا سياسيًا وأخلاقيًا داخل المؤسسة الإسرائيلية، وكشفت بما لا يدع مجالًا للشك أن “الوحدة الإسرائيلية في زمن الحرب” ليست إلا شعارًا أجوف سرعان ما يتهاوى أمام أول صفعة من المقاومة.
العملية التي لم تسقط فيها فقط الأرواح، بل سقط معها التماسك الإسرائيلي، ردود الفعل التي خرجت في أعقاب كمين بيت حانون لم تكن أصواتًا معارضة تقليدية، بل صادرة عن طيف واسع من النخبة السياسية والعسكرية – من اليسار إلى اليمين، من الضباط المتقاعدين إلى أعضاء الكابينت الحاليين، زهافا غالؤون، رئيسة حزب ميرتس السابقة، صرخت بما يشبه إعلان الفشل:”كفـى، يجب إنهاء هذه الحرب. اخرجوا من غزة، حرروا الأسرى، أوقفوا سفك الدماء.”
أما زئيف إلكين، عضو الكابينت ووزير حالي، فبرّر استمرار الحرب بثمن دموي: “الجنود يُقتلون، لكي لا يُقتل مواطنونا، كما حدث في 7 أكتوبر.”
فيما أعلنت ميراف بن آري أن الجيش يُقاتل بلا جدوى في مناطق “تم احتلالها مرارًا”، وهاجمت الوزراء الذين “يواصلون نشر الهلع بدلاً من إنهاء الحرب، الصورة أوضح من أن تُنكر: إسرائيل تخوض حربًا بلا أهداف واضحة، وبلا قيادة موحّدة، في ميدان يُديره خصم غير تقليدي.
اللواء “تشيني ماروم”، أحد أبرز وجوه المؤسسة العسكرية سابقًا، أقر صراحة بأن حماس لم تعد تنظيما مركزيا كما كانت، بل باتت شبكات حرب عصابات:”لا توجد حمـ/ـاس كما كانت، بل أفراد ينفذون حرب عصابات ويعرفون غزة أفضل منا.، وهنا تتضح المعضلة: الجيش الإسرائيلي يواجه عدوًا غير مرئي، بينما ينهار ظهره من الداخل.
ليبرمان، أحد أشرس دعاة الحرب، قلب الطاولة باتهام مباشر:
“هذه الحكومة تموّل حمـ/ـاس بالمساعدات، وترسل أبناءنا ليُقتلوا في غزة. يجب أن ترحل فورًا، يائير لابيد وميراف ميخائيلي دعوا إلى “صفقة فورية” و”إنهاء فوري للحرب”، وهو ما يعكس – لأول مرة منذ أكتوبر – تشكل تيار إسرائيلي واضح يطالب بالانسحاب الكامل من غزة.
ماذا يعني هذا استراتيجيًا؟، انفجار الداخل الإسرائيلي لم يعد حالة فردية، بل صار تيارًا مؤسسيًا يعارض استمرار الحرب، ويدعو لتسوية سياسية، فشل إدارة المعركة من قبل نتنياهو فتح الباب لتمرد داخل الكابينت نفسه، وسط اتهامات متزايدة بأنه يستخدم الحرب كأداة إنقاذ سياسي.
الجيش الإسرائيلي يعيش أخطر تحول منذ تأسيسه: انهيار الردع، غموض الأهداف، وتآكل الثقة به من داخل المجتمع نفسه وكل نجاح ميداني للمقاومة يُنتج تفككًا داخليًا أكبر داخل إسرائيل، في ظاهرة قد تُوصف استراتيجيًا بأنها “حرب استنزاف داخلية”، لا فقط عسكرية.
ما أود أن اختم به كلامي هو أن، كمين بيت حانون لم يكن مجرّد عملية ناجحة في الميدان، بل كان كاشفًا لانهيار الخطاب الإسرائيلي، وسقوط الإجماع الداخلي، وتحوّل المقاومة إلى عنصر إرباك داخلي استراتيجي. الحرب لم تعد فقط في الأنفاق والشوارع، بل انتقلت إلى قاعة الكنيست، ودوائر القرار، وحتى ضمير المجتمع.