هناك معارك لا تُخاض بالسلاح، بل تُخاض بالعقل. معارك هادئة في ظاهرها، لكنها الأعنف أثرًا في بناء الأجيال. ولهذا لم يكن غريبًا أن يضع الرئيس عبد الفتاح السيسي «حرب الوعي» في صدارة أولويات الدولة، إدراكًا منه أن مستقبل الوطن لا يُصنع فقط في المصانع والطرق، بل يبدأ من بيت صغير، وطالب يجلس أمام معلمه، وأسرة تمسك بزمام التربية قبل التعليم.
فالبيت هو البذرة الأولى. كل كلمة، وكل قيمة، وكل موقف صغير يغرس شيئًا في شخصية طفل، وقد يتحول هذا الشيء—مع مرور الأيام—إلى مبدأ، أو سلوك، أو أزمة. لذلك كانت الأسرة دائمًا شريكًا أصيلًا في معادلة التعليم، لا دورًا جانبيًا ولا مهمّة تُلقى على المدرسة وحدها. فالفصول مهما اشتدت قوانينها، تظل بحاجة إلى وعيٍ يتنفس من البيوت.
والوزارة، في كل توجهاتها الحديثة، لم تبتعد عن هذا المعنى. فهي تعرف أن إصلاح التعليم ليس مجرد تغيير كتاب أو تطوير منهج، بل بناء علاقة صحية بين الطالب وأسرته ومدرسته. ولهذا جاءت مبادراتها المتكررة لترسيخ الوعي، ودعم الانضباط، وتعزيز ثقافة الشراكة مع ولي الأمر، لأن المدرسة لا تستطيع مواجهة تحديات السلوكيات الحديثة، وضغط التكنولوجيا، وتغيرات العصر، دون سند قوي من البيت.
ومع ذلك، فإن الحزم الذي تحتاجه الفصول لا يكتمل إلا عندما تُتاح للمعلم مساحة من الثقة. فالمعلم اليوم يقف في خط المواجهة الأول: يتعامل مع اختلافات الطلاب، ومع ضغوط الأسر، ومع مطالب المنهج، ومع توقعات المجتمع. وحين يضع وعي الأسرة كتفها إلى جواره، يصبح الحزم أكثر عدلًا، والمرونة أكثر حكمة، والتربية أكثر إنسانية.
لكن الخطر الحقيقي يكمن حين يغيب هذا الوعي من البيوت. فالفجوات التي يخلقها غياب الإدراك لا تبقى داخل الأسرة فقط، بل تتسلل إلى الفصول، ثم إلى المجتمع، ثم إلى الوطن كله. إن عدم الوعي—بمعناه الواسع—لا يهدد طالبًا أو مدرسة، بل يفتح ثغرات يمكن أن تستغلها الشائعات، والأفكار الهدّامة، وحروب الجيل الرابع التي تعتمد على تفكيك القيم قبل تفكيك المؤسسات. وهنا يصبح الأمن القومي في قلب المعادلة، لأن الحفاظ على استقرار الدولة يبدأ من استقرار الأسرة، ومن طالب يعرف أين يقف، وماذا يريد، ولمن ينتمي.
لهذا يبقى العنوان حقيقيًا ونافذًا: وعيٌ يُزرع في البيوت… فيزدهر الحزم في الفصول، فما تُغرس جذوره في البيت، تحصد ثماره الدولة. وما تُهمله الأسرة اليوم، قد يدفع الوطن ثمنه غدًا، وهذه هي المعركة التي نخوضها جميعًا.. معركة الوعي، التي لا يُرفع فيها سلاح، بل يرتفع فيها وطن.
