في توقيت إقليمي ودولي بالغ التعقيد، أصدرت وزارة الخارجية المصرية كتابها الأبيض حول مبدأ «الإتزان الاستراتيجي» باعتباره الإطار الحاكم للسياسة الخارجية المصرية خلال العقد الأخير.
الإصدار لا يكتفي بتوثيق التحركات الدبلوماسية، بقدر ما يسعى إلى تأصيل فلسفة سياسية تعكس نمط التفكير الذي حكم علاقات مصر الخارجية في سنوات اتسمت بالاستقطاب والصراعات المفتوحة.
الكتاب الأبيض يقدّم مفهوم «الإتزان الاستراتيجي» كبديل عملي لسياسات المحاور والارتهان، مؤكدًا تبني مصر نهجًا يقوم على تنويع الشراكات، وصون المصالح الوطنية، ورفض الانخراط في استقطابات حادة قد تُقيد القرار السيادي. وفي عالم يشهد إعادة تشكيل لموازين القوة الدولية، تبدو هذه المقاربة محاولة واعية لتموضع الدولة المصرية كفاعل متزن لا منجرف، قادر على التواصل مع أطراف متباينة دون فقدان استقلالية قراره.
أهمية الإصدار لا تكمن فقط في محتواه، بل في كونه يحوّل المفهوم من تصريح سياسي إلى وثيقة مرجعية، تشرح منطق التحرك المصري في الدوائر العربية والأفريقية والدولية، وتبرز دور الدبلوماسية المصرية في دعم مسارات السلم والأمن، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز التعاون الاقتصادي والبيئي. وهو ما يعكس إدراكًا رسميًا بأهمية مخاطبة الداخل والخارج بلغة مؤسسية واضحة، خاصة في ظل تزايد التساؤلات حول اتجاهات السياسة الخارجية في مرحلة دولية شديدة السيولة.
غير أن قوة الإطار النظري الذي يطرحه الكتاب تفتح في الوقت ذاته بابًا مشروعًا للنقاش حول التطبيق العملي لمفهوم الإتزان، وحدود المرونة في التعامل مع أزمات إقليمية حادة، حيث يصبح الحفاظ على التوازن اختبارًا دائمًا بين الثبات على المصالح والقدرة على اتخاذ مواقف أكثر وضوحًا عند الضرورة. وهي أسئلة لا تنتقص من قيمة المفهوم، بل تعكس حيوية النقاش حوله.
في المحصلة، يمثّل الكتاب الأبيض خطوة مهمة نحو توثيق وتفسير السياسة الخارجية المصرية، ويؤكد سعي الدولة لتقديم نفسها كركيزة استقرار في محيط مضطرب، تعتمد نهج التوازن الواعي لا الانكفاء، وتفضّل إدارة الخلافات على تأجيجها.
وبين التنظير والممارسة، يظل «الإتزان الاستراتيجي» عنوانًا لمرحلة تحافظ فيها مصر على موقعها وسط عالم لا يعترف إلا بالقوى القادرة على قراءة التوازنات بدقة.


